إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 22 ديسمبر 2011

الترحيلة

الترحيلة
يتذكر كيف قست عليه وقتما كان يحزم أمتعته ليضعها على الراحلة التي سيمشي خلفها من رأس الدلتا إلى قرب قاعدتها للعمل في مشروعات العصر وقتئذ، ويتذكر كيف كانت تلك الدابة تحمل زاده وزاد زملائه من الخبز الجاف والجبن القديم المعتق في سائل "المش" منذ سنوات، سنوات عانى فيها بمواسم الشقاء السنوية لكي يربي أولاده ويعلمهم ليحقق أحلامه فيهم ويراهم كما يتمنى، قلّب عليه شريط الذكريات بعد عرض بعض مشاهد شقا...
ئه ذكريات شقاء جده فأعاد عليه ذكريات أيام طفولته عندما كان يجلس بين يدي جده ليحكي له كم عانى مع "السخرة" التي نجا من هولها بأعجوبة لأنه ذو حظ عظيم، وكيف رجع بعد أن أتم مهمته باكتمال حفر الشريان البحري الرابط بين البحرين من السويس إلى بورسعيد، وكيف كان يتردد على هذه "القنال" ليري عظيم ما فعل هو وزملاؤه، وكم قرت عينه عندما رأى تلك البواخر الخشبية التي كانت تعبر أمامه، قرارة عين مزجت ببث وحزن ثم حسرة لعدم وصول ريع هذا المشروع الضخم لبلده، ومرارة فياه لم تتذوق ثمرة شقاء أجسادها، ثمرة حصدت كثيرا من هذه الأجساد لتنضج ويكتمل ينعها.
فجأة يدخل عليه أحد أسباطه ليقطع عليه تجرع مرارة كل هذا الشقاء الذي رسم تجاعيد وجهه وسطرها، شقاء عاشه وأبواه من قبل كان حتما عليهم واضطراراً كاضطرار عابر فلاة يتجرع "حنظلة" من شدة عطشه، يدعوه حفيده لمحادثة ابنه المغترب عنه منذ سنوات عبر شاشة الحاسوب صوتاً وصورة ينقل له ولده عبر المحادثة مرارة الغربة التي يتجرعها فيشعر بشقاء ابنه والدائرة التي يدور فيها والتي تسحق وتفتت أيام عمره كما سحقت وفتت عمر أجداده من قبل.
سأل حفيده عن كيفية مشاهدة أبيه لهم عبر هذا العفريت الذي يسمى "كمبيوتر" فيشرح له حفيده كيف تنتقل الإشارة الضوئية التي تحمل الصوت والصورة وتختذلهما في أرقام وتسير بسرعة الضوء عبر كابلات الألياف الضوئية في قاع البحار والمحيطات ثم كيف تصعد عبر أبراج التقوية التي تبث الموجات الكهرومغناطيسية التي تحتوي على ذات الإشارة الرقمية لتصل لهذا الحاسب المحمول "اللاب توب" من خلال الشبكة العنكبوتية "الانترنت" وبرامجه التي يحتويها كل جهاز أو عبر الهاتف المحمول للمحادثات الهاتفية الصوتية أو المصورة.
شعر الجد بدوار خفيف بعد أن فشل انتباه تلافيف عقله وتركيز حواسه الخمس مع حفيده في فك طلاسم اللغز الذي حاول بكل ما أوتي من علم ليشرحه له، لكنه رغم عدم إدراكه لجل ما يقول هذا العفريت الصغير الذي أوشك على الدخول في نفس دائرة الشقاء والذي توقع الجد شدة قسوتها على الحفيد رغم تغير إمكانات عصره التي ستتطور نظمه وإمكاناته أكثر من عن عصر أبيه، أيقن الجد أن دائرة الشقاء يرحلها الزمن من جيل إلى جيل ويغلفها ببريق كبريق السراب في الصحراء الذي يراه الظمآن فيسعى إليه ليبلغه وما هو ببالغه، زينة تتزين الدنيا بها لمغازلة بني البشر ترحلها لأجيالهم جيلا بعد جيل ليدوروا في فلك كد العيش وتدهسهم عجلات الزمن أياماً وليالي بأسماء ومسميات مختلفة فمرة "سخرة" وأخرى "ترحيلة" وتأتي من بعدهما ابنتهما "غربة" مسميات مختلفة تطلق على رحاية الدنيا التي تسحق بني البشر جيلا بعد جيل فيما يبقى طول الأمل هو الرابط الوحيد الذي يصبرهم على هذا السحق
.
See More