إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 22 ديسمبر 2011

عتو

عتو
حتمت المشيئة الإلهية أمنها ورباط ذراري أهلها فكان أمرا مقضياً، واستوصى الرسل بها وبهم خيرا لأنها درع أمتها وسيفها، لم تطأطئ رأسها إلا لخالقها ومولاها، يشهد التاريخ لها وتثني على عبقرية موقعها الجغرافيا، بجسدها شريان من الجنان يضخ الخير بخزائن الأرض إلى يوم الدين، إيمان قلبها وشموخ روحها ورباط أهلها واعتدال خلقها ووسطية فكرها وقوة جيشها هم عتادها في صد عدو أمتها وعدوها.
بحقبة من آخر الزمان عتت عن أمر ربها ودخلت الغفلة قلبها فما كان لها إلا الحساب الشديد وما كانت تداعياته إلا العذاب النكر فإنه لم يكن ربك مهلك القرى وأهلها مصلحون، سُلط عليها الطوارئ، وضرب الفساد أركانها، وفسق مترفوها، وبطلت بها أيادي الشباب وسفهت فيها آراء أولي الألباب وذهب خيرها لغيرها فوهنت واستكانت بعد أن صدت عدى أمتها وفي حماها كانت.
حينما انتهى العتو وأفاقت من الغفلة ورجع أهلها، أذن مؤذن أن عادت رمانة الميزان، وريادة الزمان، ونافذة هي إرادة الرحمن، انتبه عدوها، ناح النائحون، وولول المولولون فهم على نمط من علمهم العتو يسيرون ولنواصيهم مالكون ولهم محرضون.
في آخر اجتماع لهم، نظر بعضهم إلى بعض نظر المغشي عليه من الموت، فصاح صائح منهم لابد من الحماية الخارجية،وناح آخر لقد انتهى عصرنا وبتر حكمنا ولابد من عدم تمكينهم منها، فاتفقوا على مواصلة الهتاف والاحتجاج والاعتصام بالفاضي والملآن ثم وصلوا إلى العنف ثم الكذب والبهتان ربما يكون لهم منها نصيب، بينما أهلها منشغلون باختيار من يمثلهم وكل آمانيهم الحكم بما أنزل الله.

الترحيلة

الترحيلة
يتذكر كيف قست عليه وقتما كان يحزم أمتعته ليضعها على الراحلة التي سيمشي خلفها من رأس الدلتا إلى قرب قاعدتها للعمل في مشروعات العصر وقتئذ، ويتذكر كيف كانت تلك الدابة تحمل زاده وزاد زملائه من الخبز الجاف والجبن القديم المعتق في سائل "المش" منذ سنوات، سنوات عانى فيها بمواسم الشقاء السنوية لكي يربي أولاده ويعلمهم ليحقق أحلامه فيهم ويراهم كما يتمنى، قلّب عليه شريط الذكريات بعد عرض بعض مشاهد شقا...
ئه ذكريات شقاء جده فأعاد عليه ذكريات أيام طفولته عندما كان يجلس بين يدي جده ليحكي له كم عانى مع "السخرة" التي نجا من هولها بأعجوبة لأنه ذو حظ عظيم، وكيف رجع بعد أن أتم مهمته باكتمال حفر الشريان البحري الرابط بين البحرين من السويس إلى بورسعيد، وكيف كان يتردد على هذه "القنال" ليري عظيم ما فعل هو وزملاؤه، وكم قرت عينه عندما رأى تلك البواخر الخشبية التي كانت تعبر أمامه، قرارة عين مزجت ببث وحزن ثم حسرة لعدم وصول ريع هذا المشروع الضخم لبلده، ومرارة فياه لم تتذوق ثمرة شقاء أجسادها، ثمرة حصدت كثيرا من هذه الأجساد لتنضج ويكتمل ينعها.
فجأة يدخل عليه أحد أسباطه ليقطع عليه تجرع مرارة كل هذا الشقاء الذي رسم تجاعيد وجهه وسطرها، شقاء عاشه وأبواه من قبل كان حتما عليهم واضطراراً كاضطرار عابر فلاة يتجرع "حنظلة" من شدة عطشه، يدعوه حفيده لمحادثة ابنه المغترب عنه منذ سنوات عبر شاشة الحاسوب صوتاً وصورة ينقل له ولده عبر المحادثة مرارة الغربة التي يتجرعها فيشعر بشقاء ابنه والدائرة التي يدور فيها والتي تسحق وتفتت أيام عمره كما سحقت وفتت عمر أجداده من قبل.
سأل حفيده عن كيفية مشاهدة أبيه لهم عبر هذا العفريت الذي يسمى "كمبيوتر" فيشرح له حفيده كيف تنتقل الإشارة الضوئية التي تحمل الصوت والصورة وتختذلهما في أرقام وتسير بسرعة الضوء عبر كابلات الألياف الضوئية في قاع البحار والمحيطات ثم كيف تصعد عبر أبراج التقوية التي تبث الموجات الكهرومغناطيسية التي تحتوي على ذات الإشارة الرقمية لتصل لهذا الحاسب المحمول "اللاب توب" من خلال الشبكة العنكبوتية "الانترنت" وبرامجه التي يحتويها كل جهاز أو عبر الهاتف المحمول للمحادثات الهاتفية الصوتية أو المصورة.
شعر الجد بدوار خفيف بعد أن فشل انتباه تلافيف عقله وتركيز حواسه الخمس مع حفيده في فك طلاسم اللغز الذي حاول بكل ما أوتي من علم ليشرحه له، لكنه رغم عدم إدراكه لجل ما يقول هذا العفريت الصغير الذي أوشك على الدخول في نفس دائرة الشقاء والذي توقع الجد شدة قسوتها على الحفيد رغم تغير إمكانات عصره التي ستتطور نظمه وإمكاناته أكثر من عن عصر أبيه، أيقن الجد أن دائرة الشقاء يرحلها الزمن من جيل إلى جيل ويغلفها ببريق كبريق السراب في الصحراء الذي يراه الظمآن فيسعى إليه ليبلغه وما هو ببالغه، زينة تتزين الدنيا بها لمغازلة بني البشر ترحلها لأجيالهم جيلا بعد جيل ليدوروا في فلك كد العيش وتدهسهم عجلات الزمن أياماً وليالي بأسماء ومسميات مختلفة فمرة "سخرة" وأخرى "ترحيلة" وتأتي من بعدهما ابنتهما "غربة" مسميات مختلفة تطلق على رحاية الدنيا التي تسحق بني البشر جيلا بعد جيل فيما يبقى طول الأمل هو الرابط الوحيد الذي يصبرهم على هذا السحق
.
See More

فل

فل
جمعتهم مصالحهم الشخصية فلاً فلاً، فكانت المادة اللاصقة التي كونت منهم قالب الفلين الهش، خيم خيال ظلهم على المشهد فأصبح لا يرى إلا هو ولا ينظر إلا إليه، أحاط قالب الفلين آلة البطش والتنكيل التي عملت بكل طاقتها فكان المتكأ الذي تستند إليه، وكان الغطاء الذي وارى خلفه عمليات الفرم والتقطيع والسحل التي تمت على أعين كل فل منهم، يتغذي كل منهم على مشهد سحق العظام ومص الدماء المعتاد فينتفخ وينتشي ليزيد ...حجمه وتزيد هشاشته.
حين انتهت صلاحية الآلة وزغمتها أشلاء ضحاياها بعد أن قاومت التقطيع والتنكيل حدث ما لم يكن للفلول في الحسبان، زاد الضغط وتولدت الحرارة، وتوقفت الآلات، انفجرت قطعاً تتطاير نحو قالب الفلين، مزقته، فككت جزيئاته، شرذمت حباته فلا فلا، حاول كل فل استخدام أولى صفاته ليفل ويهرب، تطاير الفلول مع الريح وجرفتهم الموجات العاتية، كلما أرادوا الرسو أقصتهم أفواه الناس نفخا وبصقا وتفلا حتى استقر بهم المقام إلى قرار مزبلة التاريخ، فأصبح القرار بيد الصبية مفندوا أكوام القمامة، إما أن يجمع من يصلح منهم ليعاد تصنيعه وتدوس أقدامهم الباقي، وإما أن يجمعوا جميعا في قفة واحدة ليحرقوا فتأكل النار الجميع.